فاطمة الفهرية: سيدة عربية أسست أقدم جامعة في التاريخ
في قلب الحضارة الإسلامية، بزغ اسم فاطمة الفهرية، المرأة التي خلدها التاريخ كمؤسسة لأقدم جامعة لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية.
ولدت فاطمة في أواخر القرن الثامن الميلادي في مدينة القيروان، إحدى حواضر العلم والدين في شمال إفريقيا، لعائلة عربية قرشية تنحدر من نسل الصحابي عقبة بن نافع الفهري، فاتح بلاد المغرب.
من إفريقية إلى فاس: رحلة العلم والبناء
انتقلت فاطمة الفهرية إلى مدينة فاس، عاصمة دولة الأدارسة، برفقة عائلتها، حيث استقرت في حي القيروانيين الذي سمي لاحقاً بـ”عدوة القرويين”.
وقد شهدت فاس في ذلك العصر نهضة عمرانية وعلمية، ساهمت في تشكيل ملامحها نساء مثل فاطمة وأختها مريم.
ورثت فاطمة ثروة كبيرة بعد وفاة زوجها وشقيقتها، فقررت استثمار هذا المال في عمل خيري عظيم؛ إذ نذرت أن تبني مسجداً جامعاً يخدم أبناء المدينة وطلبة العلم. هكذا انطلقت في عام 859م في تشييد جامع القرويين، الذي سيغدو لاحقاً جامعة عريقة يقصدها العلماء من مختلف أصقاع العالم الإسلامي.

جامع القرويين: منارة العلم الإسلامي
بني جامع القرويين من مواد طبيعية استخرجت من الأرض ذاتها التي شيد عليها، حيث أمرت فاطمة باستخدام الجبس والحجارة والرمال من الموقع نفسه، حرصاً على الطهارة والبركة. وبقيت فاطمة صائمة طيلة فترة البناء، التي استغرقت نحو 18 عاماً، في مثال نادر على الإخلاص والورع.
ومع مرور الزمن، تطور هذا الجامع ليصبح مؤسسة تعليمية متكاملة، تُدرّس فيها العلوم الدينية واللغوية والرياضية والطبية. وقد تخرج فيه عدد من كبار العلماء والمفكرين مثل ابن خلدون وابن رشد، ويعد اليوم رمزاً للهوية الحضارية الإسلامية.
فاطمة الفهرية: رمز الريادة النسائية
رغم شُحّ المعلومات التاريخية المفصلة عن حياتها، فإن فاطمة الفهرية تُعد نموذجاً ملهماً للمرأة المسلمة التي ساهمت في صناعة الحضارة. وقد أُطلق عليها لقب “أم البنين”، ويُعتقد أنه جاء من حبها للعطاء ومساعدتها لطلبة العلم، وليس بالضرورة من إنجابها.
كما تم توثيق فضلها في العديد من الدراسات التاريخية، وأُدرج اسمها في موسوعة “Guinness World Records” للأرقام القياسية بصفتها مؤسسة أقدم جامعة في العالم. ولا تزال سيرتها مصدر إلهام في الأوساط الأكاديمية والثقافية، وأُطلقت جوائز ومراكز بحثية باسمها، أبرزها مؤسسة “مفاد” في المغرب، وجائزة “فاطمة الفهرية” للنساء في حوض البحر الأبيض المتوسط.
هل أسستها فعلاً؟ الخلافات التاريخية
رغم الإجماع التاريخي على دور فاطمة الفهرية في تأسيس جامع القرويين، إلا أن بعض المؤرخين، مثل عبد الصمد الديالمي، أثاروا شكوكاً حول دقة الرواية، مشيرين إلى أن الوثائق المتأخرة قد بالغت في سرد القصة. في المقابل، يرفض باحثون آخرون هذا الطعن، ويؤكدون أن دور فاطمة موثق في التراث الإسلامي، ويمثل دليلاً على مساهمة النساء في الفضاء العام الإسلامي.
إرث خالد
لم تكن فاطمة الفهرية مجرد امرأة ثرية أنفقت مالها في سبيل الله، بل كانت صاحبة رؤية حضارية بعيدة المدى. فقد أسست مؤسسة علمية لا تزال قائمة بعد أكثر من 1150 عاماً، شاهدة على أن للمرأة العربية دوراً ريادياً لا يُغفل في صناعة الحضارة.