تسريب صوتي جديد للرئيس جمال عبد الناصر: لا جديد في المضمون، توثيق لتاريخ معروف
خلال الأيام الماضية، تصدّر تسريب صوتي منسوب إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عناوين الأخبار. في التسجيل، الذي يعود تاريخه إلى الثالث من أغسطس عام 1970، يظهر عبد الناصر وهو يتحدث بحضور الزعيم الليبي معمر القذافي وعدد من القادة العرب، معبرًا عن خيبة أمله من مواقف بعض الدول العربية بعد نكسة يونيو 1967.
ماذا قال عبد الناصر في التسجيل المسرب؟
لم يحمل التسجيل أية مفاجآت جوهرية، بل أعاد تأكيد مواقف عبد الناصر المعروفة. حيث أوضح أن مصر، بعد نكسة 67، لن تدخل حربًا جديدة، محذرًا من خطورة فقدان الضفة الغربية وقطاع غزة في ظل الشعارات الرنانة والمزايدات العربية. وأكد أن تحرير سيناء كان أولوية استراتيجية لمصر، في مقابل شعارات تحرير فلسطين “من النهر إلى البحر” التي رأى أنها تفتقد للواقعية.

خلفية التسجيل وسياقه السياسي
التسجيل يعود إلى فترة دقيقة جدًا من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث جاءت هذه التصريحات بعد أسابيع من طرح مبادرة وزير الخارجية الأمريكي “ويليام روجرز”، التي دعت إلى وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل تمهيدًا لمفاوضات تسوية سياسية. كانت هذه المبادرة بمثابة رد على حرب الاستنزاف التي خاضتها مصر ضد الاحتلال الإسرائيلي في سيناء بين عامي 1967 و1970.
في هذا السياق، استقبل عبد الناصر القذافي مرتين بالقاهرة، قبل وبعد زيارة القذافي لبغداد، ثم شارك كلا الزعيمين في مؤتمر القادة العرب الذي عُقد في طرابلس في 5 أغسطس 1970.
مزايدات عربية وانتقادات داخلية
أثار تجاوب عبد الناصر مع مبادرة روجرز انتقادات لاذعة، خاصة من نظام حزب البعث في العراق، الذي اتهمه آنذاك بـ”بيع شرف الأمة”. تبادل عبد الناصر والرئيس العراقي أحمد حسن البكر رسائل شديدة اللهجة، نشر جزء منها عبر وسائل الإعلام، وجاءت مواجهة مباشرة بينهما خلال مؤتمر طرابلس، حيث وصف عبد الناصر هذه الحملة بأنها مجرد مناورات سياسية داخلية.

قراءة أوسع للتاريخ: هل كانت الحرب لتحرير فلسطين حقًا؟
لمن يقرأ التاريخ بتأنٍ، لن تبدو تصريحات عبد الناصر مفاجئة. فحرب 1948، كما أوضحت دراسات متعددة، لم تكن تهدف فعليًا إلى تحرير فلسطين بالكامل، بل كانت تنافسًا بين الأنظمة العربية، خصوصًا العروش الملكية في مصر والأردن والعراق والسعودية، للسيطرة على الأراضي الفلسطينية العربية التي نص عليها قرار التقسيم لعام 1947.
الملك عبد الله الأول ملك الأردن، بمباركة بريطانية، كان يخطط لضم الضفة الغربية إلى مملكته، وهو ما تحقق لاحقًا. وكانت الأولوية المصرية هي تأمين امتداد لمصر في مناطق النقب وجنوب فلسطين. أما الجيوش العربية فقد دخلت الحرب بأعداد أقل وتسليح محدود مقارنة بالقوات الصهيونية، التي استفادت من دعم دولي واسع ومن خبرات عسكرية كبيرة من الحرب العالمية الثانية.
عبد الناصر والقلق المصري من إسرائيل
منذ نهاية الأربعينيات، كان التهديد الإسرائيلي للأراضي المصرية واضحًا. قوات إسرائيلية توغلت في سيناء حتى العريش خلال حرب 1948، قبل أن تتراجع تحت الضغط الدولي. كما شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على القاهرة آنذاك. هذه الخلفية شكلت قلقًا دائمًا لدى عبد الناصر، الذي كان يرى أن حماية سيناء واستردادها هو جزء من أمن مصر القومي، أكثر من كونه مجرد شعار تحريري شامل لفلسطين.
ما بين الواقع والشعارات
عبد الناصر كان يدرك جيدًا أن توازنات القوى الدولية والإقليمية، وليست النوايا وحدها، هي التي تحكم مصير الشعوب. لذا، كان موقفه عقلانيًا عندما رفض المغامرة في معارك غير محسوبة تحت شعارات عاطفية. لم يكن تخليًا عن القضية الفلسطينية بقدر ما كان إدراكًا لمحدودية الإمكانيات وضرورة ترتيب الأولويات الوطنية.
تسجيل يفتح بابًا لإعادة قراءة التاريخ
التسجيل الصوتي الجديد لا يكشف عن “أسرار” بقدر ما يسلط الضوء على مرحلة تاريخية شديدة الحساسية، حيث تتداخل فيها الشعارات القومية مع الواقع السياسي. ربما يدفعنا هذا التسريب اليوم لإعادة قراءة التاريخ العربي بشكل أكثر واقعية، بعيدًا عن المزايدات التي كلفتنا كثيرًا من الأرض والدماء.