عندما يتعلق الأمر بالصحة وطول العمر، عادةً ما نركز على عوامل معروفة مثل التغذية السليمة، النشاط البدني، والامتناع عن التدخين. لكن دراسة علمية ضخمة كشفت أن عادة يومية بسيطة مثل شرب القهوة قد يكون لها دور مفاجئ في دعم صحة الجسد والعقل مع التقدم في العمر.
فبحسب بحث حديث أجراه فريق من جامعة هارفارد المرموقة، وامتد لثلاثة عقود كاملة، فإن النساء اللواتي شربن القهوة بانتظام في منتصف العمر تمتعن بصحة أوفر مع التقدم في السن، مقارنةً بنظيراتهن ممن لم يستهلكن القهوة بنفس القدر.
والأكثر إثارة، أن القهوة وحدها – وليس الشاي أو المنتجات الأخرى المحتوية على الكافيين، ولا حتى القهوة منزوعة الكافيين – ارتبطت بتحقيق هذه النتائج الإيجابية.
أرقام غير مسبوقة: نصف قرن من المتابعة والآلاف من المشاركات
انطلقت هذه الدراسة في إطار “دراسة صحة الممرضات” التي شملت أكثر من 47 ألف امرأة أميركية، جرى تتبع بياناتهن الصحية والتغذوية بدءًا من عام 1984 وحتى عام 2016.
على مدار هذه السنوات، كان الباحثون يراقبون جوانب متعددة لصحة المشاركات، بدءًا من معدل الإصابة بالأمراض المزمنة كداء السكري وأمراض القلب والسرطان، مرورًا بالصحة الإدراكية والعقلية، ووصولًا إلى القدرة البدنية والوظائف الحركية اليومية.
وقالت الدكتورة سارة مهدوي، من كلية هارفارد للصحة العامة، إن ما يميز هذه الدراسة هو ضخامة العينة وطول فترة المتابعة وتنوع المؤشرات الصحية التي تم تقييمها بدقة. فقد جُمعت معلومات شاملة عن عادات الأكل، نمط الحياة، والظروف الصحية للمشاركات كل أربع سنوات، ما أتاح للباحثين رؤية واضحة لتأثير القهوة على الصحة بمرور الوقت.
ما هي “الشيخوخة الصحية” في هذه الدراسة؟
يختلف تعريف الشيخوخة الصحية من بحث لآخر، لكن الفريق العلمي هنا حدّدها وفق أربعة معايير أساسية:
✅ بلوغ سن 70 عامًا على الأقل.
✅ عدم الإصابة بأي من الأمراض المزمنة الرئيسية الـ11 مثل أمراض القلب، السرطان، السكري، والسكتة الدماغية.
✅ غياب أي مشكلات كبيرة في الوظائف الجسدية أو القدرة على الحركة.
✅ عدم وجود اضطرابات معرفية أو نفسية أو مشكلات في الذاكرة.
وبناءً على هذه المعايير، تم تصنيف 3706 امرأة ضمن “مجموعة كبار السن الأصحاء” عام 2016، بعد متابعة امتدت لعقود.
كم كوبًا من القهوة تحتاج؟
أظهرت البيانات أن النساء اللاتي تمتعن بشيخوخة صحية كنّ يستهلكن في منتصف العمر حوالي 315 ملغ من الكافيين يوميًا، أي ما يعادل 3 أكواب صغيرة (حجم 1980) أو حوالي كوب ونصف بحجم عام 2025.
ومن اللافت أن أكثر من 80% من إجمالي استهلاك الكافيين في هذه المجموعة جاء من القهوة وحدها، وليس من الشاي أو المشروبات الغازية أو مصادر أخرى.
وبتحليل الأرقام، وجد الباحثون أن كل زيادة تعادل 80 ملغ من الكافيين يوميًا (نحو كوب قهوة تقليدي) كانت ترتبط بتحسن المؤشرات الصحية بنسبة تراوحت بين 2% إلى 5%. ومع زيادة الاستهلاك حتى خمسة أكواب صغيرة يوميًا، ارتفع هذا التحسن بشكل تدريجي.
لماذا القهوة تحديدًا وليس الشاي أو المشروبات الأخرى؟
رغم أن الكثير من الدراسات تربط بين القهوة وتقليل مخاطر الإصابة ببعض الأمراض مثل السكري من النوع الثاني وألزهايمر، إلا أن هذه الدراسة تعدّ الأولى التي ترصد تأثير القهوة على مجالات متعددة من الشيخوخة الصحية على مدى 30 عامًا.
توضح الدكتورة مهدوي أن القهوة لا تحتوي على الكافيين فحسب، بل على أكثر من ألف مركب نباتي آخر، منها مضادات الأكسدة والبوليفينولات، التي قد تساهم في حماية الخلايا وتقليل الالتهابات المزمنة التي ترافق الشيخوخة.
وأضافت:
“تُشير النتائج إلى أن القهوة المحتوية على الكافيين – وليس منزوع الكافيين – يمكن أن تدعم بشكل خاص المسارات البيولوجية التي تحافظ على صحة الدماغ والوظائف الجسدية مع مرور الوقت.”
القهوة… صديقة للذاكرة والحركة؟
يشير الباحثون إلى أن المشاركات اللاتي تناولن القهوة بانتظام أظهرن معدلات أقل من التدهور المعرفي ومشكلات الحركة البدنية. كما انخفض لديهن معدل الإصابة بالأمراض المزمنة مقارنةً بالنساء اللواتي لم يشربن القهوة.
ورغم أن الآليات الدقيقة ما تزال قيد البحث، يعتقد العلماء أن الكافيين ومركبات القهوة قد تسهم في:
☕ تحفيز إنتاج الناقلات العصبية المهمة مثل الدوبامين.
☕ تقليل تراكم البروتينات الضارة في الدماغ.
☕ حماية الأوعية الدموية وتقليل الالتهابات.
ماذا عن القهوة منزوعة الكافيين؟
أحد الجوانب المثيرة أن القهوة منزوعة الكافيين لم تحقق نفس النتائج الإيجابية في المؤشرات الصحية للشيخوخة. كما لم يرتبط الشاي أو المشروبات الغازية المحتوية على الكافيين بفوائد مشابهة.
وهذا يوحي بأن العلاقة بين القهوة والشيخوخة الصحية ليست محصورة بالكافيين وحده، بل قد تعود لتفاعل معقد بين عشرات المركبات الطبيعية.
لا مبالغة في التوقعات… ولا بد من الاعتدال
رغم النتائج المشجعة، شددت الدكتورة مهدوي على أن:
“الفوائد الوقائية للقهوة معتدلة نسبيًا مقارنةً بتأثير نمط الحياة الصحي بشكل عام.”
بمعنى آخر، شرب القهوة باعتدال قد يكون خطوة مساعدة، لكنه لا يغني أبدًا عن تبني عادات يومية مفيدة مثل:
✅ ممارسة الرياضة بانتظام.
✅ تناول نظام غذائي غني بالفواكه والخضراوات.
✅ الامتناع عن التدخين.
✅ الحصول على قسط كافٍ من النوم.
ماذا بعد؟ أبحاث مستمرة لكشف الأسرار
يخطط فريق هارفارد لمزيد من الدراسات الهادفة إلى تحديد المركبات الفعالة في القهوة، وكيفية تأثيرها على مسارات الشيخوخة.
كما يبحث العلماء في إمكانية تصميم تجارب أكثر دقة لمقارنة تأثير القهوة بأنواعها المختلفة، ومعرفة ما إذا كانت النتائج تنطبق على الرجال وعلى الفئات السكانية الأخرى خارج الولايات المتحدة.
خلاصة
إذا كنت من عشاق القهوة، فربما تجد في هذه الدراسة سببًا إضافيًا للاستمتاع بفنجانك الصباحي بثقة أكبر. وبينما لا توجد وصفة سحرية لتأخير الشيخوخة، فإن دمج عادة تناول القهوة مع نمط حياة صحي قد يكون مزيجًا فعالًا للحفاظ على نشاطك وحيويتك مع تقدمك في العمر.
ومع ذلك، تذكّر دائمًا: الاعتدال هو المفتاح، فكثرة الكافيين قد تؤدي إلى آثار جانبية كالأرق وارتفاع ضغط الدم، لذا استمتع بالقهوة بوعي واتزان.