في مقالة شهيرة بعنوان “انطلاق عصر الذكاء الاصطناعي“ نشرها الملياردير بيل غيتس في مارس 2023، أكد أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستصبح خلال سنوات قليلة الأداة المحورية في التعليم حول العالم، وهو ما سيؤدي إلى تغيير جذري في طرق التدريس وأساليب التعلم.
يقول غيتس إن هذه التقنيات قادرة على تحليل اهتمامات الطالب وطرق تعلمه، وتصميم محتوى مخصص يحافظ على تركيزه ويحفّزه باستمرار. والأهم أنها ستراقب لحظة بلحظة مستوى الفهم ومؤشرات الملل، وتتكيف مع احتياجات كل متعلم لتقديم تعليقات فورية وإرشادات دقيقة.
وفي حوار أجراه معه البروفسور آرثر بروكس من جامعة هارفارد في فبراير 2025، ذهب غيتس إلى أبعد من ذلك، متوقعًا أن يؤدي انتشار الذكاء الاصطناعي إلى تقليل الاعتماد التقليدي على المعلمين، وتقديم فرص تعليمية عالية الجودة مجانًا أو بتكلفة زهيدة، ما يحقق المساواة في التعليم عبر تمكين الفئات الأقل حظًا من الوصول إلى موارد تعليمية متميزة.
التعليم.. أكبر صناعة قادمة على الإنترنت؟
أما المستقبلي الأميركي توماس فراي، المدير التنفيذي لمعهد دافنشي، فقد رسم ملامح مشهد أكثر طموحًا. إذ توقع أنه بحلول 2030، ستظهر شركة تعليمية قائمة على الذكاء الاصطناعي، لم نسمع باسمها بعد، لتصبح أكبر شركة على الإنترنت عالميًا، قادرة على الوصول إلى 1.5 مليار طالب بجميع اللغات والثقافات.
هذه المنصة قد تعتمد نموذجًا تمويليًا يشبه جوجل، عبر تقديم التعليم مجانًا معتمدًا على الإعلانات. ويدعم هذا السيناريو ما ذكره المنتدى الاقتصادي العالمي بأن سوق التعليم العالمي سيبلغ 10 تريليونات دولار بحلول 2030، لتصبح تكنولوجيا التعليم ركيزة هذا النمو.
من التلقين إلى التفكير النقدي.. فلسفة جديدة للتعليم
على الصعيد التربوي، تعود جذور فكرة التعلم المخصص والتفاعلي إلى عالم النفس السويسري جان بياجيه، الذي قال في كتابه “محادثات مع جان بياجيه”:
“التعليم لا يعني صنع نسخ من البالغين النمطيين في المجتمع، بل إعداد مبدعين ومخترعين”.
طوّر بياجيه نظرية التعلم البنائي (Constructivism)، التي ترى أن الطالب يبني معرفته بنفسه من خلال التجربة والتفاعل، وليس عبر التلقين السلبي. وتقوم هذه النظرية على مبادئ منها:
- التعلم نشاط ذاتي وتفاعلي.
- الخطأ جزء طبيعي من اكتساب المعرفة.
- المعلم موجّه وليس ناقلًا للمعلومات.
- الخبرات السابقة مفتاح لفهم أي معرفة جديدة.
ورغم صعوبة تطبيق هذه النظرية سابقًا، ساعد التطور التكنولوجي الهائل في العقود الأخيرة على تقريب هذا الحلم إلى الواقع.
تقنيات غيّرت الفصول الدراسية
بدأت التكنولوجيا تغزو التعليم مبكرًا، من أجهزة العرض والراديو في أوائل القرن العشرين، ثم الحواسيب والإنترنت والسبورات الذكية. وفي العقد الأخير، أصبحت تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز والهولوغرام تقدم تجارب لا يمكن للفصول التقليدية مضاهاتها.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، استخدمت جامعة إمبريال كوليدج لندن الهولوغرام في مؤتمر “المرأة في التكنولوجيا“، حيث ظهر المتحدثون مجسَّمين بثلاثة أبعاد أمام الجمهور دون سفر.
أما جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة فأنشأت عام 2020 وحدة تعليمية افتراضية بالكامل. صمم الطلاب منتجات على جزيرة رقمية سُميت نوتوبيا (Nottopia)، في تجربة محاكاة غنية تدمج العمل الجماعي والتعلم التفاعلي.
وفي 2024، افتتحت مدرسة Unbound Academy عبر الإنترنت في أريزونا، لتصبح أول مدرسة تعتمد على الذكاء الاصطناعي كليًا لتدريس المناهج الأساسية. الطلاب ينهون مقرراتهم خلال 80 يومًا فقط وفق نموذج “التعلم لمدة ساعتين“، ليقضوا بقية وقتهم في تطوير مهارات الحياة.
ولم يقف التطور هنا؛ ففي ديسمبر 2024، قدّم الروبوت “كاتشيا” دروسًا لطلاب مدرسة ألمانية، بما في ذلك محاضرات تفاعلية ومناظرات علمية، في سابقة تاريخية.
إقرأ ايضا : خطة ماسك الجريئة: توحيد SpaceX وxAI ومنصة X تحت إدارة ذكاء اصطناعي موحد يُدعى “Grok”
هل يختفي دور المدرسة والمعلم؟
يرى لويس فون آن مؤسس “دولينغو” أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح قادرًا على تدريس كل شيء تقريبًا، لكن المدارس ستبقى لأنها توفر للأطفال الرعاية والتنشئة الاجتماعية.
أما ديميس هاسابيس رئيس “غوغل ديب مايند”، فيرى أن الذكاء الاصطناعي والواقع الممتد والحوسبة الكمومية ستحدث ثورة شاملة في التعليم خلال عقد.
ويذهب بيل غيتس إلى حد التنبؤ بأن بعض الدول قد تختصر أسبوع العمل إلى يومين فقط، وهو ما سيضاعف الاعتماد على التعليم المنزلي، مع تراجع كبير في أعداد المعلمين التقليديين.
أين يقف العالم العربي؟
رغم هذه التحولات الكبرى، لا تزال البلدان العربية تواجه تحديات ضخمة في جودة التعليم. ففي اختبارات PISA لعام 2022، جاءت الإمارات أولًا عربيًا لكنها احتلت المركز 43 عالميًا، بينما تراجعت باقي الدول العربية إلى مراتب متأخرة.
وفي أولمبياد الرياضيات الدولي 2024، احتلت السعودية المركز 41 عالميًا والأول عربيًا، فيما لم تحقق بقية الدول العربية مراكز متقدمة.
أما التعليم الجامعي، فقد حققت جامعة الملك سعود إنجازًا تاريخيًا بدخول قائمة أفضل 100 جامعة عالميًا لأول مرة، بينما بقيت غالبية الجامعات العربية خارج التصنيفات المرموقة.
كيف نطوّر التعليم العربي؟
لا يمكن تعميم استراتيجية موحدة على كل الدول، فالاختلاف في البنية التحتية الرقمية والاستقرار السياسي يفرض حلولًا متنوعة. لكن في الدول ذات الجاهزية التقنية، من الضروري تبنّي خطة عاجلة لإعداد الأجيال القادمة لحقبة الذكاء الاصطناعي.
تشمل المهارات الحيوية المطلوبة:
✅ تعلّم كيفية التعلم والتكيف الذاتي.
✅ التفكير الناقد وحل المشكلات الأخلاقية.
✅ محو أمية البيانات وتفسيرها.
✅ الإبداع والابتكار.
✅ التواصل والذكاء العاطفي.
كما يلخّص المفكر ناعوم تشومسكي جوهر التعليم بقوله:
“الغرض من التعليم هو مساعدة الطلاب على اكتشاف كيفية التعلم بأنفسهم وتنمية عقل حر مستقل.”