الدحيح | الدحيح لماذا نحن هنا؟ الوجودية بين العبث والمعنى

لماذا نحن هنا؟ سؤال لا ينتهي!

في حلقة جديدة مثيرة من برنامجه الأشهر “الدحيح“، يفتح أحمد الغندور بابًا طالما أرّق الفلاسفة والناس العاديين على حد سواء: لماذا نحن هنا؟. سؤال بسيط في ظاهره، لكنه حين تتأمله بعمق، ستجد أنه يزلزل يقينك ويضعك أمام مرآة الوجودية، تلك الفلسفة التي لا تمنح إجابات جاهزة، بل تدعوك للبحث عن المعنى بنفسك.

من بروكس إلى العبث

يبدأ الدحيح الحلقة باستعارة مشهد مأساوي من فيلم The Shawshank Redemption، حيث يخرج بروكس، الرجل العجوز الذي قضى حياته كلها في السجن، ليواجه حرية لم يعد يعرف كيف يتعامل معها. يتعثر في العيش خارج القضبان التي تعوّد عليها، فينتهي به المطاف إلى الانتحار.

هنا يضعنا الدحيح أمام سؤال صادم: هل الحرية دائمًا نعمة؟ أم قد تكون عبئًا قاتلًا إذا لم نعرف كيف نملأ فراغها بالمعنى؟

الوجودية.. فلسفة الحرية الملعونة

يدخل الدحيح مباشرة إلى قلب الفلسفة الوجودية. هذه المدرسة الفكرية التي نشأت في القرن التاسع عشر وازدهرت في القرن العشرين على يد فلاسفة مثل جان بول سارتر وألبير كامو وفريدريش نيتشه وسورين كيركيجارد.

الوجودية تقول إننا جئنا إلى هذا العالم بلا سبب مسبق، بلا غاية جاهزة. لا يوجد “جوهر” محدد لكل إنسان يولد ومعه، كما كانت الأديان والفلسفات التقليدية تؤكد. بل الإنسان يولد، ثم يقرر هو بنفسه ما يكونه.

هذا ما يسميه سارتر “الجوهرانية”: الفكرة القديمة بأن لكل شيء غاية محددة. الوجودية ترفض هذا المفهوم وتعلن بوضوح: “الوجود يسبق الجوهر”.

بعبارة أخرى، أنت موجود أولًا، وبعد ذلك تصنع نفسك بنفسك.

لقد حُكم علينا بالحرية

يقتبس الدحيح عبارة شهيرة لسارتر: “لقد حُكم علينا أن نكون أحرارًا”. للوهلة الأولى، الحرية تبدو جميلة. لكن عندما تدرك أنك وحدك المسؤول عن قراراتك وعن خلق المعنى في حياتك، تتحول الحرية إلى عبء ثقيل.

لا إله يحدد لك المصير، ولا قدر يكتب لك السيناريو. أنت الكاتب والمخرج والبطل والكومبارس. وإذا أخطأت، لا يمكنك لوم أحد. هذه الحرية المطلقة قد تدفع البعض، مثل بروكس، إلى اليأس.

سيزيف والعبث.. كامو يدخل المشهد

ينتقل الدحيح إلى الفيلسوف ألبير كامو، صاحب أشهر استعارة عن العبث: أسطورة سيزيف. سيزيف حُكِم عليه أن يدحرج صخرة ضخمة إلى قمة جبل، لكنها في كل مرة تسقط منه فيعود لرفعها مجددًا، إلى الأبد.

كامو يقول إن حياتنا تشبه هذا المصير العبثي. لا توجد غاية عليا أو مكافأة ختامية تنتظرنا. السؤال هنا: كيف تتصرف عندما تعرف أن حياتك بلا معنى مُسبق؟

كامو لا يدعو للانتحار كما قد يتخيل البعض. بالعكس، يرى أن مواجهة العبث بوعي هي شجاعة كبرى. أن تدرك سخافة الوضع ومع ذلك تستمر، هو في حد ذاته انتصار على العبث.

نيتشه.. موت الإله وولادة الإنسان الحر

ثم يستعرض الدحيح مساهمة فريدريش نيتشه، الفيلسوف المثير للجدل الذي أعلن “موت الإله” في كتابه هكذا تحدث زرادشت. لم يقصد نيتشه موت الإله حرفيًا، بل موت القيم المطلقة واليقينيات التي بُنيت عليها الحضارة الأوروبية.

عندما تسقط هذه القيم، يصبح الإنسان مضطرًا أن يخترع قيمه الخاصة. هكذا يولد مفهوم “الإنسان الأعلى” (Übermensch)، ذلك الفرد الذي يمتلك الإرادة والقوة لخلق معنى جديد لحياته.

كيركيجارد.. الإيمان قفزة في المجهول

على الطرف الآخر، يأتي سورين كيركيجارد الفيلسوف الدنماركي الذي آمن أن مواجهة الفراغ الوجودي لا تتحقق إلا بالإيمان. لكنه لم يكن يتحدث عن إيمان تقليدي آمن، بل عن قفزة إيمان عمياء، تقفز فيها من حافة العدم إلى حضن الإيمان بلا برهان منطقي.

في كتابه خوف ورعدة وإما أو، يشرح كيركيجارد كيف يعاني الإنسان بين الشك والبحث عن اليقين. الإيمان عنده ليس يقينًا عقليًا، بل مخاطرة وجودية، اختيار يخلق المعنى وسط العدم.

هل يمكننا خلق المعنى؟

في منتصف الحلقة، يتساءل الدحيح: إذا لم يكن للحياة معنى مُسبق، فهل نملك القدرة على خلق المعنى بأنفسنا؟ هنا تلتقي أفكار سارتر وكامو ونيتشه في نقطة واحدة: نعم، نحن وحدنا الذين نمنح حياتنا معنًى.

لكن هذه الإجابة ليست سهلة. لأنها تضع كل المسؤولية على كتف الفرد. وهنا جوهر الوجودية: الحرية المطلقة تعني المسؤولية المطلقة.

مواجهة الفراغ.. شجاعة لا يقدر عليها الجميع

يعود الدحيح إلى مشهد بروكس ليوضح أن البعض لا يحتمل هذا الفراغ. فراغ لا يُملؤه السجن ولا الحرية ولا المال. لهذا تنتهي حياة كثيرين بلا إجابة، أو بانسحاب هادئ من لعبة الحياة.

لكن الفلاسفة الوجوديين يرون أن أعظم شجاعة هي الاعتراف بأن الحياة بلا معنى جاهز، ثم خلق المعنى رغم ذلك.

ماذا نتعلم من الوجودية؟

يختتم الدحيح الحلقة برسالة عميقة: في عالم لا يمنحك معنى على طبق من فضة، لا مفر من أن تصنع معنًى لحياتك بيدك. سواء آمنت بالله كما فعل كيركيجارد، أو واجهت العبث بشجاعة كما فعل كامو، أو حاولت ابتكار قيم جديدة كما دعا نيتشه، المهم ألا تستسلم للفراغ.

فربما تكون أعظم شجاعة هي الاستمرار في صنع المعنى، والإيمان بما اخترت، حتى لو بدت الحياة بلا جدوى.

أحمد الغندورالدحيح
Comments (0)
Add Comment