الدحيح| هندسة الفشل: حين ينهار النظام فجأة

في عالمنا المعاصر، قد يبدو كل شيء خاضعًا لمنطق صارم ومعادلات دقيقة، من تصميم الطائرات إلى محطات الطاقة النووية، لكن خلف ستار “النظام الكامل”، يكمن شبح الانهيار المفاجئ. تلك اللحظات النادرة التي لا نتوقع حدوثها، لكنها إذا وقعت أطاحت بكل شيء في طريقها. هذا ما أطلق عليه المفكر ناصم نيكولاس طالب في كتابه الشهير البجعة السوداء (The Black Swan)، إذ وصف كيف يمكن للأحداث شديدة الندرة أن تغيّر مجرى التاريخ والاقتصاد والبشرية كلها.

لماذا نعجز عن التنبؤ بالفشل؟

يرجع جزء كبير من هذا العجز إلى قصور نماذجنا الرياضية والإحصائية. فرغم التقدم المذهل في علم الإحصاء، يظل سلوك الأنظمة المعقدة – مثل الأسواق المالية والطائرات العملاقة ومحطات الطاقة – بعيدًا عن قدرة معادلاتنا على توقع جميع السيناريوهات الممكنة. الباحث بنوا مانديليبروت (Benoit Mandelbrot)، أحد رواد علم الفركتال (Fractals)، أشار إلى أن التعقيد لا يُختزل في متوسطات وأرقام بسيطة. التوزيعات الإحصائية الكلاسيكية لا تكفي لتفسير “القفزات” الكبيرة، أي تلك اللحظات التي يختل فيها كل شيء فجأة.

لذا حين نتعامل مع منظومات شديدة التعقيد، علينا ألا نغتر بثقتنا في قدراتنا على السيطرة والتحكم. فكما لاحظ ستيفن ولفرام في كتابه نوع جديد من العلم (A New Kind of Science)، الأنظمة التي تنمو وفق قواعد بسيطة قد تنتج سلوكًا عشوائيًا يصعب التنبؤ به.

حين يصبح الفشل كارثة

يمكننا تلمس شواهد ذلك في الكوارث الكبرى. انظر إلى كارثة تشيرنوبيل النووية، أو حادثة مفاعل فوكوشيما، أو حتى سقوط طائرات بوينغ 737 ماكس. كلها أحداث لم تكن متوقعة بالكامل، رغم طبقات السلامة والتقنيات المذهلة. في كل مرة، ظنّ المهندسون والمصممون أن إجراءاتهم كافية، وأن “نموذج الفشل” تمت تغطيته بالكامل. ثم جاءت لحظة الانهيار لتثبت خطأ هذه الثقة المفرطة.

في حادثة بوينغ، أدى الاعتماد على برمجية معقدة للتحكم في الطيران إلى سلسلة أخطاء قاتلة. وفي فوكوشيما، تسبب زلزال تسونامي – رغم أنه كان سيناريو مطروحًا – في انهيار المنظومة. يشير ذلك إلى أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في محاولة توقع شكل الفشل، بل في كيفية بناء أنظمة قادرة على الصمود إذا حدث ما لا يمكن تصوره.

الهندسة المعاكسة للثقة

الحل إذًا لا يكمن في مزيد من محاولات التنبؤ بكل تفصيلة صغيرة. بل في خلق أنظمة مرنة قابلة للتكيف والنجاة عند حدوث الكارثة. علينا تقبّل أن “الصدفة السوداء” ستطرق أبوابنا عاجلًا أو آجلًا. فكما قال نيكولاس طالب، نحن بحاجة إلى مضادات الهشاشة (Antifragility)، أي القدرة على امتصاص الصدمات والتكيّف مع العشوائية بدلاً من الانهيار أمامها.

لهذا السبب، يدعو علماء الإحصاء والهندسة الحديثة إلى فلسفة تصميم جديدة: بدلًا من السعي المحموم لتوقع كل شيء، ينبغي أن نخطط للنجاة عندما ينهار كل شيء.


في الختام
ما بين فوكوشيما وتشيرنوبيل وبوينغ، تتجلى حقيقة صادمة: ليس كل ما يلمع نظامًا محكمًا. أحيانًا يكون أفضل ما يمكننا فعله هو أن نبني أنظمتنا على افتراض أنها ستفشل يومًا ما، وأننا سنكون مستعدين وقتها للوقوف على أقدامنا من جديد.

أحمد الغندورالدحيح
Comments (0)
Add Comment