أبو زيد السروجي.. حين صار الكلام أقوى من السيف!
في حلقة جديدة ممتعة من برنامجه الشهير “الدحيح“، يأخذنا أحمد الغندور في رحلة إلى عالم التراث العربي، حيث تختبئ قصص الأبطال الحقيقيين الذين لم يحملوا أسلحة فتاكة أو قدرات خارقة، بل امتلكوا سلاحًا واحدًا لا يُقهر: الكلمة.
الحلقة بعنوان “فن صناعة الكتاب عند العرب”، تبدأ بمقارنة طريفة بين سوبرمان وباتمان من ثقافة الغرب، وأبطال التراث العربي الذين لم يقلّوا بطشًا وتأثيرًا وإن اختلفت أدواتهم. ثم يقدّم لنا بطل الحلقة: أبو زيد السروجي، الشخصية المحورية في مقامات الحريري، أحد أشهر الأعمال الأدبية العربية وأكثرها تأثيرًا.
من هو أبو زيد السروجي؟
يعرّفنا الدحيح على هذا البطل العجيب: أبو زيد السروجي. هو شخصية خيالية اخترعها الأديب العربي الكبير الحريري ليكون بطل “المقامات”، وهي نصوص سردية مليئة بالمغامرات والمواقف الطريفة، تدور حول حيل هذا الرجل الماكر وخطبه الساحرة التي يخدع بها الناس ويخرج من كل مأزق كالشعرة من العجين.
لكن الدحيح يطرح سؤالًا ساخرًا: “هل أبو زيد بطل شريف؟ ولا نصاب دمّه خفيف؟” الحقيقة أنه مزيج غريب من الذكاء والدهاء وخفة الظل، فهو نصاب محترف لكنه أيضًا رمز لعبقرية اللغة العربية وفن السرد المبدع.
مقامات الحريري.. سوبر هيروز بالكلام
تُعَدُّ مقامات الحريري واحدة من أجمل نماذج الأدب العربي في العصر العباسي. كتبها الحريري بأسلوب لغوي معجز، مليء بالسجع والجناس والتلاعب اللفظي الذي يجعل النصوص تحفة لغوية لا يُشبع منها. لم تكن هذه المقامات مجرد قصص للتسلية، بل كانت درسًا في البلاغة واللغة والفكر، وتعبيرًا ساخرًا عن المجتمع وطبقاته.
وتمامًا كما يصنع الغرب قصص الأبطال الخارقين ليعبر عن القيم والتحديات، صنع الحريري بطله اللغوي ليكشف أوجاع عصره، وسخرية القدر، وجمال البيان العربي.
من الورق إلى الصورة.. المنمنمات تدخل المشهد
لكن القصة لا تنتهي عند الكلمات، فبعد حوالي 100 سنة، جاء فنان عبقري اسمه الواسطي، الذي لم يكتفِ بقراءة المقامات أو نسخها، بل قرر أن يضيف إليها بُعدًا بصريًا جديدًا تمامًا. وهكذا تحوّل النص المكتوب إلى لوحات مذهلة تُسمى المنمنمات.
يشير الدحيح إلى أن المنمنمات كانت أشبه بما نسميه اليوم القصص المصورة (الكوميكس)، لكنها بروح عربية وإسلامية أصيلة. فقد جلس الواسطي ليحوّل حكايات الحريري إلى رسومات مليئة بالتفاصيل والألوان والحركة، لتصبح المقامات تحفة فنية بصرية ولغوية في آن واحد.
المنمنمات.. فن عربي يروي الحكايات
المنمنمات العربية هي لوحات صغيرة تُرسم داخل صفحات الكتب، وتُزخرف بها المخطوطات لتجسيد المشاهد والأحداث. هذه الرسومات لم تكن مجرد ديكور، بل كانت وسيلة سرد موازية للنص، تُضيف عمقًا ومعنى وتفسيرًا بصريًا.
في حلقة الدحيح، نكتشف كيف ابتكر الواسطي أسلوبًا فريدًا يختلف عن الفن البيزنطي والفارسي، ليرسم الشخصيات بملامح عربية واضحة، ويصور الحياة اليومية، والملابس، والمجالس العلمية، والأسواق، وحتى المواقف الساخرة التي عاشها أبو زيد.
كتاب جمع بين عبقريتين تفصلهما 100 سنة
واحدة من المفارقات المدهشة التي يسلط عليها الدحيح الضوء، أن هذا الكتاب العظيم هو نتيجة تعاون غير مباشر بين اثنين من العباقرة: الحريري الكاتب، والواسطي الرسام. وبينهما قرنٌ كامل من الزمن، ومع ذلك جاء العمل منسجمًا كأنه ثمرة تعاون حيّ.
هنا يتوقف الدحيح عند فكرة مهمة: كيف استطاع الفن العربي أن يخلق أعمالًا خالدة تتجاوز الزمان والمكان، ويصنع حالة إبداعية تشبه “الترند” الذي يستمر لمئات السنين؟
السياسة داخل الصور
يُفاجئنا الدحيح بإشارة ذكية إلى أن المنمنمات لم تكن بريئة تمامًا من السياسة. ففي بعض اللوحات، نجد رسائل مبطنة عن السلطة والطبقات والواقع الاجتماعي. فمثلًا، يظهر الحكّام في وضعية ترفع وتبجيل، بينما يصوَّر الفقراء بتواضع، وأحيانًا بسخرية.
هكذا كان الفن أداة نقد لاذع، ووسيلة للتعبير عن التفاوت الطبقي والهموم اليومية للناس، لكن بطريقة ساحرة لا تثير غضب السلطة بشكل مباشر.
فن صناعة الكتاب.. تكنولوجيا العصر الذهبي
يتناول الدحيح جانبًا آخر من القصة: كيف كان العرب ينظرون للكتاب باعتباره مشروعًا حضاريًا ضخمًا؟ كانت عملية إنتاج الكتاب تشمل الكاتب، والناسخ، والمذهب، والمجلد، والرسام، لتخرج مخطوطة تساوي ثروة.
في عصر لم تكن فيه المطابع موجودة، كانت كل نسخة تُنسخ يدويًا وتُزين بعناية. وكان اقتناء كتاب مزخرف بالمنمنمات علامة ثراء ومكانة رفيعة. ويذكّرنا الدحيح بأن هذه “التكنولوجيا” هي التي حفظت لنا تراثًا غنيًا ما زلنا نفتخر به اليوم.
أبو زيد.. بطل أم نصاب؟
في النهاية، يعود الدحيح للسؤال الأزلي: هل أبو زيد السروجي بطل حقيقي؟ أم مجرد محتال بدم خفيف؟ والإجابة أن أبو زيد هو انعكاس لعبقرية العربي القديم، الذي لم يكن بحاجة إلى عضلات فولاذية أو طيران خارق ليُدهشك. كان يكفيه ذكاءٌ لغوي، ولسانٌ ساحر، وروح مرحة، ليصنع أسطورته الخاصة.
الختام.. سوبر هيرو من نوع آخر
حلقة “فن صناعة الكتاب عند العرب” تذكرنا أن أعظم بطولات التاريخ لم تكن دومًا بالسيف، بل بالكلمة، والفن، والفكر. وأن تراثنا العربي مليء بسوبر هيروز لم يحتلوا الشاشات، لكنهم صنعوا كتبًا وأفكارًا خالدة.
إنها قصة بطل “سوبر هيرو بالكلام”، وكتابٍ تحوّل إلى لوحة، وتاريخٍ يحكي عن أمة قدّمت للعالم فنونًا راقية لا زلنا نستمد منها إلهامنا حتى اليوم.