بنك قطر الوطني يؤكد: خطوات تطبيع السياسة النقدية في اليابان لا تشكل تهديدًا على استقرار النظام المالي العالمي
في تقرير تحليلي صدر مؤخرًا، سلط بنك قطر الوطني الضوء على التطورات الجارية في السياسة النقدية لليابان، مع التركيز بشكل خاص على خطوات بنك اليابان المركزي نحو تطبيع سياساته التي ظلت توسعية للغاية على مدار عقود. وبحسب التقرير، فإن التحولات الأخيرة في التوجه النقدي الياباني لا يُتوقع أن تمثل مصدرًا مباشرًا للمخاطر المالية العالمية، على عكس ما يتصوره بعض المراقبين الدوليين الذين يبدون قلقًا بشأن أثر ارتفاع العوائد في السوق الياباني على التدفقات المالية والسيولة الدولية.
وأشار البنك إلى أن السياسة النقدية اليابانية اتسمت لسنوات طويلة باتجاه انكماشي، الأمر الذي دفع بنك اليابان إلى انتهاج أسلوب تحفيزي غير مسبوق، شمل أسعار فائدة سلبية وبرامج ضخ سيولة ضخمة، إلى جانب آلية التحكم في منحنى العائد. وقد ساهم هذا النهج في الحفاظ على استقرار الأسواق اليابانية الداخلية وتثبيت تكاليف التمويل، لكن ارتفاع معدلات التضخم في الفترات الأخيرة فرض على صناع السياسة ضرورة إعادة تقييم هذا الإطار التوسعي.
خلفية تاريخية للسياسة النقدية في اليابان
منذ انهيار الفقاعة العقارية في أوائل التسعينيات، عانت اليابان من حالة ركود ممتدة وانكماش في الأسعار استمرت سنوات طويلة، عرفت باسم “العقد الضائع”. وللتغلب على هذه التداعيات، تبنى بنك اليابان سياسات نقدية غير تقليدية شملت خفض الفائدة إلى مستويات سلبية وتوسيع ميزانيته العمومية عبر شراء السندات الحكومية.
وقد استمرت هذه الإجراءات حتى بعد تعافي بعض المؤشرات الاقتصادية، بهدف دعم الطلب المحلي وتحقيق استقرار الأسعار حول هدف 2% للتضخم.

إلا أن الضغوط التضخمية العالمية التي تزامنت مع جائحة كورونا، واضطراب سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار السلع، أثارت جدلاً واسعًا حول توقيت وطريقة الخروج من هذه السياسات غير التقليدية، خاصة مع استمرار ضعف معدلات النمو في الاقتصاد الياباني مقارنة بنظرائه من الاقتصادات المتقدمة.
موقف بنك قطر الوطني من التطورات الأخيرة
أوضح تقرير بنك قطر الوطني أن خطوات بنك اليابان نحو تطبيع السياسة النقدية جاءت حذرة ومدروسة، وجرى اتخاذها في إطار تواصلي شفاف مع الأسواق المالية. فخلال العامين الماضيين، بدأ البنك المركزي الياباني بتخفيف سياسته في التحكم بمنحنى العائد عبر رفع سقف العوائد المستهدفة على السندات الحكومية لأجل عشر سنوات بشكل تدريجي، وصولًا إلى إلغاء الحدود الصارمة على العوائد. هذا التحول أتاح للأسواق التأقلم المسبق مع التغيرات في تكلفة التمويل، ما قلل من احتمالات حدوث صدمات مفاجئة قد تؤثر على الاستقرار المالي.
وبحسب التحليل، فإن حجم الارتباط بين النظام المالي الياباني والأسواق المالية العالمية لا يزال محدودًا نسبيًا مقارنة بتأثيرات أسواق الولايات المتحدة أو منطقة اليورو. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل أبرزها أن المؤسسات المالية اليابانية، رغم كونها من كبار حاملي الأصول الأجنبية، تدير محافظها الاستثمارية بطريقة مدروسة، كما أن طبيعة التمويل الياباني تعتمد على المدخرات المحلية بدرجة عالية.
إقرأ أيضاً : تطبيق ببساطة Bebasata من بنك QNB: تجربة مصرفية جديدة تناسب الشباب
محددات التأثير المحتمل على الأسواق العالمية
لفت البنك إلى أن هناك عدة محددات تقلل من فرص تسبب التطبيع النقدي الياباني في اضطرابات عالمية واسعة، أهمها:
- خصوصية هيكل السوق الياباني
إذ يظل جزء كبير من السندات اليابانية مملوكًا لمؤسسات محلية كالبنوك وصناديق التقاعد، وهو ما يجعل تحركات العائدات أقل تأثيرًا على تدفقات رؤوس الأموال العالمية مقارنة بما يحدث عند تشديد السياسة النقدية الأمريكية. - الفارق الكبير في السياسة النقدية مع الاقتصادات الأخرى
فحتى مع توجه بنك اليابان نحو رفع العوائد، فإن أسعار الفائدة اليابانية لا تزال قريبة من الصفر، ما يحد من جاذبية الأصول اليابانية للمستثمرين الدوليين الباحثين عن عوائد مرتفعة. - التدرج والوضوح في التوجهات
اعتمد بنك اليابان خطابًا واضحًا وتدريجيًا لطمأنة الأسواق، ما ساهم في تقليل تقلبات أسعار الصرف والعوائد. - قوة الملاءة المالية للمؤسسات اليابانية
أشار البنك إلى أن المؤسسات المالية اليابانية تتمتع بمرونة كبيرة وقدرة على امتصاص التغيرات في أسعار الأصول، نظراً لاستقرار مصادر التمويل المحلية وارتفاع نسب رأس المال.
انعكاسات محتملة على سعر صرف الين الياباني
أوضح بنك قطر الوطني أن خطوات رفع العوائد ساهمت في دعم سعر صرف الين أمام الدولار بعد سنوات من التراجع الحاد. ومع ذلك، فإن تأثير هذا التحسن يظل محدودًا، خاصة في ظل تباين السياسات النقدية بين بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك اليابان. إذ يواصل الفيدرالي سياسة التشديد عبر أسعار الفائدة المرتفعة، ما يحد من قدرة الين على استعادة كامل خسائره.
لكن على المدى المتوسط، قد يؤدي استمرار التطبيع النقدي إلى مزيد من التدفقات الاستثمارية نحو الأصول اليابانية، مما يعزز استقرار العملة ويدعم ثقة المستثمرين.
توقعات الاقتصاد الياباني في ضوء التحولات النقدية
أكد البنك أن تطبيع السياسة النقدية سيصب في صالح الاقتصاد الياباني على المدى الطويل، حيث يساعد على كبح التضخم وضبط تكاليف التمويل وتوجيه الموارد نحو الأنشطة الإنتاجية بشكل أكثر كفاءة. لكنه شدد في الوقت ذاته على أهمية مواصلة الحذر، لتجنب التسبب في ضغوط تمويلية على الشركات والأسر المثقلة بالديون.
ويتوقع البنك أن تواصل الحكومة اليابانية والبنك المركزي التنسيق الوثيق لتجنب صدمات مالية أو انكماش مفاجئ في الطلب المحلي.
رؤية بنك قطر الوطني للتداعيات الإقليمية والدولية
أوضح البنك في ختام تقريره أن تطبيع السياسة النقدية في اليابان لا يمثل في حد ذاته تهديدًا للنظام المالي العالمي، لكنه قد يساهم مع سياسات التشديد المستمرة في الاقتصادات الكبرى الأخرى في إعادة تشكيل اتجاهات رؤوس الأموال والتدفقات الاستثمارية. لذا شدد على ضرورة متابعة التطورات عن كثب، خاصة بالنسبة للاقتصادات الناشئة التي قد تتأثر بتغيرات تدفقات رؤوس الأموال وأسعار الصرف.
كما أشار إلى أن المنطقة الآسيوية، وعلى رأسها الصين وكوريا الجنوبية، تراقب بحذر هذه التحولات، نظرًا لارتباطها التاريخي بالتجارة والتمويل الياباني، لكن من غير المتوقع حدوث اضطرابات حادة في المدى القصير.
خلاصة
يخلص تقرير بنك قطر الوطني إلى أن توجهات بنك اليابان نحو تطبيع السياسة النقدية خطوة طبيعية ومتوقعة بعد عقود من السياسات التوسعية غير التقليدية. ومع أن هذه الخطوة قد تحدث بعض التغييرات في حركة رؤوس الأموال وسلوك المستثمرين، إلا أنها لا تمثل، في تقدير البنك، مصدرًا مباشرًا لمخاطر مالية عالمية كبيرة. بل على العكس، قد تسهم على المدى الطويل في تعزيز استقرار الاقتصاد الياباني وترسيخ ثقافة مالية أكثر توازنًا.
يبقى أن نشير إلى أن سرعة وتيرة هذا التطبيع ستظل رهينة بتطورات التضخم والنمو المحلي في اليابان، إضافةً إلى السياسات النقدية في الاقتصادات الكبرى الأخرى.