الدحيح : كتالونيا وبرشلونة: قصة هوية تُحاصَر وتُقاوِم

0 1

كتالونيا وبرشلونة.. عندما تصبح كرة القدم مقاومة سياسية

في حلقة جديدة من برنامجه الشهير “الدحيح“، يغوص أحمد الغندور في أعماق التاريخ والسياسة والهوية، ليروي لنا حكاية إقليم كتالونيا، الإقليم الإسباني ذو الهوية الثقافية والسياسية الفريدة، وعلاقته الوثيقة بنادي برشلونة الإسباني، ذلك الكيان الكروي الذي لم يكن مجرد نادٍ رياضي، بل تحوّل إلى رمز للمقاومة والتمسّك بالهوية في وجه الاضطهاد والقمع.

كتالونيا.. أكثر من مجرد إقليم

إقليم كتالونيا هو أحد الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي داخل المملكة الإسبانية، ويقع شمال شرق البلاد، عاصمته مدينة برشلونة. يتميز الإقليم بهوية لغوية وثقافية فريدة، حيث يتحدث سكانه اللغة الكتالونية إلى جانب الإسبانية، ويمتلكون تاريخًا طويلًا من السعي إلى الاستقلال السياسي أو على الأقل الحفاظ على خصوصيتهم داخل دولة تُحاول في كثير من الأحيان توحيد الهويات تحت راية واحدة.

ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت النزعة الكتالونية للاستقلال بالتصاعد، مدفوعةً بعوامل اقتصادية وثقافية وسياسية. وقد تعرض الإقليم لمحطات متكررة من التوتر مع الحكومة المركزية في مدريد، خصوصًا خلال فترات الأنظمة الديكتاتورية كحكم فرانكو، حيث كانت أي محاولة للتعبير عن الهوية الكتالونية تُقابل بالقمع والعنف.

برشلونة.. نادٍ يمثل شعبًا

في هذا السياق، برز نادي برشلونة، ليس فقط كنادٍ رياضي، بل كمساحة بديلة للتعبير عن الهوية الكتالونية. كانت مدرجات “كامب نو” تمتلئ ليس فقط بالمشجعين المتحمسين للكرة، بل أيضًا بالرافضين للسياسات المركزية، الباحثين عن بصيص حرية في ظل قمع خانق. ورفع شعار “أكثر من مجرد نادٍ” (Més que un club) لم يكن مجرد دعاية، بل حقيقة راسخة لدى كل كتالوني.

يحكي الدحيح كيف تحوّل نادي برشلونة إلى تمثيل سياسي، وكيف أن الفوز في مباراة ضد ريال مدريد الإسباني – ممثل السلطة المركزية في نظر الكتالونيين – كان يُعدّ نصرًا رمزيًا في معركة هوية لا تنتهي. لقد تحوّل المستطيل الأخضر إلى ساحة نضال، تُرفع فيها الأعلام الكتالونية، وتُغنّى فيها الأناشيد القومية، ويُعبَّر فيها عن رفض الخضوع.

الصراع مع مدريد.. جذور ممتدة

العلاقة بين كتالونيا ومدريد لم تكن دائمًا عدائية، لكنها مرت بمراحل شد وجذب، فحين حصلت كتالونيا على بعض مظاهر الحكم الذاتي في القرن العشرين، تنفّست هوية الإقليم قليلًا، قبل أن يعصف بها القمع مجددًا خلال حقبة فرانكو (1939 – 1975). وخلال هذه الفترة، مُنعت اللغة الكتالونية، وتم تهميش الثقافة المحلية، وقُمعت أي مظاهر انفصالية.

بعد وفاة فرانكو وعودة الديمقراطية، حصل الإقليم على بعض الحقوق مجددًا، لكن المطالب بالاستقلال لم تتوقف. وتحوّلت السياسة الإسبانية إلى حقل ألغام كلما اقترب الحديث من استقلال كتالونيا، وتكررت المواجهات السياسية، واندلعت الاحتجاجات، كما جرى في استفتاء 2017 الذي اعتبرته مدريد غير شرعي، وواجهته بالعنف.

برشلونة وفرانكو.. نادٍ ضد القمع

تُعيدنا الحلقة أيضًا إلى فترة الحكم الفرانكوي، حيث كان نادي برشلونة أحد ضحايا سياسات النظام العسكري. يُذكر أن رئيس النادي “جوسيب سونيول” قُتل على يد جنود فرانكو عام 1936، لأنه كان يُجسّد تلك الروح الكتالونية الرافضة للاستبداد. كما أن مباريات الكلاسيكو ضد ريال مدريد كانت تُحمَّل بطابع سياسي صارخ، حيث كان الفوز يُعادل صرخة حرية في وجه الاستعباد.

لم يكن الجمهور وحده من يرى في برشلونة رمزًا للهوية، بل حتى اللاعبين والإدارة كانوا يدركون هذا الثقل. فأن تحمل قميص برشلونة، يعني أن تكون سفيرًا لشعب مُهمَّش، وأن كل هدف تُحرزه، هو صفعة على وجه القمع.

كرة القدم كأداة مقاومة

يطرح الدحيح سؤالًا جوهريًا في هذه الحلقة: “هل يمكن أن تتحول الرياضة إلى وسيلة سياسية؟” والإجابة التي تأتي عبر سرد الوقائع والتاريخ، تؤكد أن كرة القدم ليست معزولة عن السياسة كما يُروّج البعض. ففي حالة برشلونة وكتالونيا، أصبحت الرياضة أداة للتعبير عن الرفض، وساحة لنقل رسالة احتجاجية بلغة لا يُمكن قمعها بسهولة.

لقد استطاعت كتالونيا أن تحوّل عشقها للكرة إلى مسار موازٍ من النضال الثقافي والسياسي، حيث تحوّل كل هدف يُسجَّل، وكل انتصار يُحقَّق، إلى لحظة يُعيد فيها الشعب اكتشاف صوته.

الحاضر.. نزاع مستمر

حتى اليوم، لا تزال قضية استقلال كتالونيا تُمثّل أزمة داخل الدولة الإسبانية، وتُغذي الانقسام السياسي والمجتمعي. وفي كل مرة يُطرح فيها الموضوع، يُعاد الحديث عن هوية برشلونة، وعمّا إذا كان النادي يمكن أن يلعب في دوري مستقل، أو حتى تحت علم دولة جديدة مستقبلًا.

وفي عام 2017، حين أعلن قادة كتالونيا الانفصال من جانب واحد، خرج لاعبو برشلونة للملاعب وهم يحملون شعارات تدعو للسلام والحرية، ما يثبت أن النادي لا يزال على عهده، صوتًا يُعبّر عن أمل شعبه.

برشلونة.. أكثر من مجرد نادٍ فعلًا

بخفة ظلّه المعتادة، وروحه التحليلية، يقدم الدحيح صورة بانورامية لعلاقة معقدة بين السياسة، والهوية، وكرة القدم. ويثبت أن برشلونة لم يكن مجرد نادٍ يُسجّل الأهداف، بل منصة نضال، ومرآة تعكس ما يعيشه أبناء كتالونيا من أحلام وصراعات.

حلقة “إقليم كتالونيا | الدحيح” ليست مجرد جولة في تاريخ كرة القدم، بل هي كشف لكيف يمكن للهوية أن تتجلى في المستطيل الأخضر، وكيف تتحوّل الرياضة إلى مرآة تعكس صراع الشعوب، وتعبّر عن أحلامهم وأوجاعهم. وبين التاريخ والسياسة والرياضة، تتجلى قصة كتالونيا وبرشلونة كأحد أصدق وأعمق تعبيرات الهوية في عالم لا يعترف إلا بمن يُجيد الصراخ حين يُمنَع الكلام.

Loading...