الدحيح I تأملات في صوت جارة القمر – فيروز

0 2

في أربعينات القرن الماضي، كانت شوارع بيروت تفيض بالحكايات والمواويل، لكن لم يتخيل أحد أن فتاة خجولة لم تتجاوز الرابعة عشرة ستصبح يومًا أيقونةً خالدة يختبئ العالم في صوتها عندما تضيق الدنيا. تلك الفتاة كانت نهاد حداد، التي عرفها الناس لاحقًا باسم فيروز، جارة القمر وصاحبة الصوت الذي رافق اللبنانيين والعرب في أفراحهم وأوجاعهم.

بدأت رحلتها بخجل يشبه خطواتها الأولى على المسرح، لكنها امتلكت هبة فريدة: صوت يذيب المسافات بين الناس. سرعان ما انجذبت إليها آذان الملحنين، فصارت تغني ألحان كبار المؤلفين، لكنها وجدت في الأخوين رحباني شركاء درب تحوّل معها الغناء إلى أسطورة. وبدايةً من مطلع الخمسينات، صارت فيروز رمزًا يشبه الوطن نفسه، وطنًا مشتركًا يجتمع فيه اللبنانيون باختلاف طوائفهم وتوجهاتهم السياسية.

يروي الدحيح في هذه الحلقة كيف تحولت المراهقة الخجولة إلى صوتٍ يغني للضيعة والبحر والشجر والإنسان، قبل أن يتحول إلى تعويذة للسلام. كانت حنجرتها الصغيرة تختزن طاقة غامضة، تشع دفئًا وصفاءً يجعل المستمع يشعر بأن الدنيا بخير، ولو للحظة قصيرة. ومع كل أغنية، كانت فيروز تثبت أن الفن قادر على صنع المعجزة: أن يحمي الذاكرة الجماعية، ويمنح الناس الأمل عندما يخذلهم كل شيء.

في زمن الحرب اللبنانية، حين مزقت القذائف شوارع بيروت، بقي صوت فيروز يصدح في الإذاعات: “بحبك يا لبنان”، فصار الناس يعتبرونه وطنًا بديلًا يلوذون به كلما اشتد الخوف. أما في الغربة، فقد صار صوتها رسالة حنين، يربط المهاجرين بجذورهم التي لم ينسوها.

ويستعرض الدحيح في عرضه مصادر عدة، منها كتاب “فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” لفواز طرابلسي، الذي يتتبع البعد المسرحي والإبداعي لعلاقة فيروز بالأخوين رحباني. ومن “وطن اسمه فيروز”، مجموعة نصوص تحتفي بمكانتها الاستثنائية، إلى جانب كتاب “الموسيقى العربية في القرن العشرين” لالياس سحّاب، الذي وثّق كيف أثّرت أغنياتها في الذائقة العربية.

وبحسب “الظاهرة الرحبانية” لهاشم قاسم، فإن مشروع الرحابنة وفيروز لم يكن مجرد تعاون فني، بل كان مشروعًا ثقافيًا وإنسانيًا حوّل المسرح والأغنية إلى مساحة لحلم جماعي. أما هنري زغيب في كتابه “الأخوين الرحباني: طريق النحل”، فيصف بدقة كيف أن ألحان الأخوين صارت جناحين لصوت فيروز، فأخذتهما معًا إلى ذروة الخلود.

في نهاية الحلقة، يدعونا الدحيح إلى تأمل هذا السر البسيط العميق: كيف يمكن لصوت امرأةٍ هادئة أن يوحّد ملايين القلوب، ويصير جزءًا من ذاكرة أمة. ربما لأن صوت فيروز ليس مجرد غناء، بل هو لحظة صفاء إنساني نادرة، لحظة يخبرنا فيها الفن أنه لا يزال لدينا ما نحلم به.

Comments
Loading...