حين يتحول التاريخ إلى أسطورة
في حلقة جديدة مثيرة من برنامجه الأشهر “الدحيح“، يأخذنا أحمد الغندور في رحلة عابرة بين عالمين: عالم الخيال المذهل الذي صنعه جورج ر. ر. مارتن في سلسلته الملحمية أغنية الجليد والنار، والمسلسل الأشهر في تاريخ الدراما Game of Thrones، وعالم التاريخ الحقيقي الذي استقى منه مارتن الكثير من الإلهام والأحداث والصراعات.
ورغم أن ملايين المشاهدين انبهروا بالمكائد الدموية والصراعات الملتوية على العروش والدماء المراقة في ويستروس، إلا أن القليلين فقط يعلمون أن وراء معظم هذه الأحداث جذورًا واقعية حدثت فعلًا في أوروبا القرون الوسطى.
جورج ر. ر. مارتن.. عبقرية الاقتباس
يبدأ الدحيح الحلقة بتسليط الضوء على طريقة مارتن الفريدة في بناء عالمه. هو لم يبتكر كل شيء من خياله المحض، بل استلهم نماذج شخصياته وصراعاته من التاريخ، وأضاف عليها جرعة من الفانتازيا والتنانين والسحر. وبهذه الخلطة المدهشة صنع تحفة سردية لا يشبهها شيء.
في هذا المقال، نستعرض أهم الأحداث والوقائع الحقيقية التي تحولت إلى مادة خام لقصة صراع العروش.
حرب الوردتين.. صراع على التاج لا يرحم

أول وأوضح مصدر إلهام هو حرب الوردتين (Wars of the Roses)، تلك الحرب الأهلية الطويلة بين عائلتين نبيلتين في إنجلترا: بيت لانكاستر وبيت يورك. بدأت الحرب عام 1455 واستمرت حوالي 30 عامًا، في صراع دموي على العرش الإنجليزي.
الدحيح يوضح أن هذه الحرب هي الأساس التاريخي للصراع بين آل لانستر وآل ستارك في المسلسل، بل إن حتى الأسماء متقاربة (Lancaster – Lannister، York – Stark).
في حرب الوردتين:
- العائلتان حملتا شعارات زهور: وردة حمراء ووردة بيضاء.
- حصلت انقلابات وتحالفات وخيانات شبيهة بخيانة اللورد بيتر بيليش.
- انتصرت أسرة ثم تراجعت ثم عادت ثانية، مثل ما حدث في المسلسل مع آل ستارك.
إدوارد الرابع وريتشارد الثالث.. أبطال التراجيديا
من الشخصيات التاريخية التي تأثر بها مارتن في رسم ملوك ويستروس:
- إدوارد الرابع: الملك الشاب الوسيم، الذي وصل للحكم بعد حرب طويلة، وشهد صعودًا درامتيكيًا ثم هبوطًا مأساويًا.
- ريتشارد الثالث: الملك المكروه المشوه، الذي ألهم شخصية تيريون لانيستر بجانب تأثيرات أخرى.
حياة هؤلاء الملوك كانت مليئة بالمؤامرات، وحالات القتل الغامض، والزيجات المدبرة. مارتن أخذ كل هذه القصص، ثم أضاف إليها التنانين وخيالاته السوداء.
جدار هادريان.. أصل الجدار العظيم
الجدار الثلجي الهائل في شمال ويستروس مستوحى من جدار هادريان التاريخي في بريطانيا، الذي بناه الرومان في القرن الثاني الميلادي لصد غزوات القبائل الشمالية (البيكتس).
يشرح الدحيح أن مارتن نفسه زار الجدار وقال إنه شعر بوقع التاريخ وهو يتخيل الجنود الرومان وهم يحدقون في البرية الباردة. فكرة “البرية المجهولة خلف الجدار” ألهمت كل تفاصيل الحرس الليلي والهمج والوايت ووكرز.
المغول والفرسان.. نماذج للغزاة
الهوردات الهمجية التي ظهرت في قصة دوثراكي مستوحاة من المغول بقيادة جنكيز خان. يشير الدحيح إلى أن مارتن استلهم ثقافة المحاربين على ظهر الخيل، عاداتهم الصارمة، أسلوبهم الوحشي في الغزو، وطريقتهم في الولاء للزعيم الأقوى.
كذلك، فكرة المدن المسورة التي تخشى هؤلاء الغزاة جاءت من تجارب أوروبا الشرقية مع اجتياح المغول.
العرب وفتح القسطنطينية.. عبق الحصار الطويل
من الحروب التاريخية التي أثرت في مارتن أيضًا محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية في العصر الأموي. يذكر الدحيح أن فكرة حصار مدينة محصنة خلف الأسوار الضخمة استوحيت من تلك الأحداث، خصوصًا أساليب الهجوم الطويل والصبر في الحصار والابتكار العسكري.
النار الإغريقية.. سلاح مدمر
في المسلسل، نرى النار الهائلة (Wildfire) التي أحرقت الأسطول في معركة بلاك ووتر. هذا السلاح مستوحى من النار الإغريقية، وهو سلاح حقيقي استخدمه البيزنطيون وكان يحترق حتى فوق الماء. تفاصيل طريقة استخدامه وطريقة تخزينه وخوف الجنود منه تشبه وصف النار الهائلة تمامًا.
مذبحة العرس الأحمر.. من خيانة تاريخية
من أكثر المشاهد صدمة في المسلسل كانت مذبحة العرس الأحمر، حيث يقتل آل بولتون ضيوفهم غدرًا. مارتن استلهم هذا الحدث من مذبحتين حقيقيتين:
- عشاء الأسود في اسكتلندا، حين دعا الملك عائلة منافسة لعشاء ثم أمر بقطع رؤوسهم.
- مذبحة غلينكو عام 1692، حيث قتل الضيوف وهم نائمون عند مضيفيهم.
الدحيح يوضح كيف مزج مارتن بين التاريخين ليصنع المشهد الأكثر رعبًا في القصة.
القوة الناعمة للتاريخ
تذكّرنا الحلقة أن التاريخ ليس مجرد أرقام ومعارك مملة في كتب المدرسة، بل هو خزان ضخم من القصص الحقيقية التي تلهم الفن والخيال إلى الأبد. جورج ر. ر. مارتن لم يكن مؤرخًا، لكنه عرف كيف يختار أحداثًا درامية مذهلة ليصنع عالمه الخاص.
ماذا نتعلم؟
يختم الدحيح الحلقة برسالة مهمة: لو أردت أن تفهم Game of Thrones أكثر، اقرأ عن أوروبا في العصور الوسطى. ستجد أن كثيرًا من أكثر اللحظات دهشة وقسوة ليست خيالًا كاملًا، بل لها جذور حقيقية أعمق من أي خيال.
وهكذا، يثبت التاريخ مرة أخرى أنه أعظم كاتب قصص عرفه البشر.